فصل: المقصد الثاني من الطرف الثالث في بيان طرق البلاغة ووجوه تحسين الكلام وكيفية إنشائه وتأليفه وتهذيبه وتأديته وبيان ما يستحسن من الكلام المصنوع وما يعاب به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الأصل السادس: وجود الطبع السليم وخلو الفكر عن المشوش:

أما وجود الطبع فقال في مواد البيان: أول معاون هذه الصناعة الجليلة القريحة الفاضلة، والغريزة الكاملة، التي هي مبدأ الكمال، ومنشأ التمام، والأساس الذي يبنى عليه، والركن يتند إليه، فإن المرء قد يجتهد في تحصيل الآداب، ويتوفر على اقتناء العلوم واكتسابها، وهو مع ذلك غير مطبوع على تأليف الكلام فلا يفيده ما اكتسبه، بخلاف المطبوع على ذلك، فإنه وإن قصر في اقتباس العلوم واكتساب المواد فقد يلحق بأوساط أهل الصناعة؛ وذلك أن الطبع يخص الله تعالى به المطبوع دون التطبع، والمناسب بغزيرته للصناعة دون المتصنع، ولا سبيل إلى اكتساب سهولة الطبع ولا كزازته، بل هو موهبة تخص ولا تعم، وتوجد في الواحد وتفقد في الآخر.
قال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير: ومن الناس من يكون في البديهة أبدع منه في الروية، ومن هو مجيد في الروية وليست له بديهة، وقلما يتساويان. ومنهم من إذا خاطب أبدع، وإذا كاتب قصر، ومن هو بضد ذلك، ومن قوي نثره ضعف نظمه، ومن قوي نظمه ضعف نثره، وقلما يتساويان. وقد يبرز الشاعر في معنى من مقاصد الشعر دون غيره من المقاصد، ولهذا قيل: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، وعنترة إذا كلب، والأعشى إذا طرب. قال في المثل السائر: بل ربما نفذ في بعض أنواع الشعر دون بعض، فيرى مجيداً في المدح دون الهجو أو بالعكس، أو ماهراً في المقامات ونحوها دون الرسائل، أو في بعض الرسائل دون بعض. قال ابن أبي الأصبع: ولربما واتاه العمل في وقت دون وقت؛ ولذلك قال الفرزدق: إني ليمر علي الوقت ولقلع ضرس من أضراسي أيسر علي من قول الشعر؛ ولذلك عز تأليف الكلام ونظمه على كثير من العلماء باللغة، والمهرة في معرفة حقائق الألفاظ، من حيث نبو طباعهم عن تركيب بسائط الكلام الذي قامت صور معانيه في نفوسهم، وصعب الأمر عليهم في تأليفه ونظمه، فقد حكي أن الخليل بن أحمد مع تقدمه في اللغة، ومهارته في العربية، واختراعه علم العروض، الذي هو ميزان شعر العرب، لم يكن يتهيأ له تأليف الألفاظ السهلة لديه الحاصلة المعاني في نفسه على صورة النظم إلا بصعوبة ومشقة، وكان إذا سئل عن سبب إعراضه عن نظم الشعر يقول يأباني جيده وآبى رديئه، مشيراً بذلك إلى أن طبعه غير مساعد له على التأليف المرضي الذي تحسن نسبته إلى مثله. وقيل للمفضل الضبي: ألا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ فقال: علمي به يمنعني من قوله، وأنشد:
أبى الشعر إلا أن يفيء رديئه ** علي ويأبى منه ما كان محكما

فيا ليتني إن لم أجد حولك وشيه ** ولم أك من فرسانه كنت مفحما

وأنشد أبو عبيدة خلفاً الأحمر شعراً له فقال اخبأ هذا كما تخبأ السنورة حاجتها، مع ما كان عليه أبو عبيدة من العلم باللغة وشعر العرب وأمثالها وأيام حروبها، وما يجري مجرى ذلك من مواد تأليف الكلام ونظمه. ويحكى عن أبي العباس المبرد أنه قال: لا أحتاج إلى وصف نفسي: لأن الناس يعلمون أنه ليس أحد بين الخافقين تختلج في نفسه مسألة مشكلة إلا لقيني بها وأعدني لها، فأنا عالم ومعلم، وحافظ ودارس، ولا يخفى علي مشتبه من الشعر، والنحو، والكلام المنثور، والخطب، والرسائل، ولربما احتجت إلى اعتذار من فلتة، أو التماس حاجة، فأجعل المعنى الذي أقصد نصب عيني ثم لا أجد سبيلاً إلى التعبير عنه بيد ولا لسان، ولقد بلغني أن عبيد الله بن سليمان ذكرني بجميل فحأولت أن أكتب إليه رقعة أشكره فيها وأعرض ببعض أموري، فأتعبت نفسي يوماً في ذلك فلم أقدر على ما أرتضيه منها، وكنت أحأول الإفصاح عما في ضميري فينحرف لساني إلى غيره، ولذلك قيل: زيادة المنطق على الأدب خدعة، وزيادة الأدب على المنطق هجنة.
فقد تتبين لك أن العبرة وبالطبع وأنه الأصل المرجوع إليه في ذلك؛ على أن الطبع بمفرده لا ينهض بالمقصود من ذلك نهوضه مع اشتماله على المواد المساعدة له على ذلك من الأنواع السابقة فيما تقدم في أول هذه المقالة، من العلم باللغة والنحو والتصريف والمعاني والبيان والبديع، وحفظ كتاب الله تعالى، والإكثار من حفظ الأحاديث النبوية، والأمثال والشعر والخطب، ورسائل المتقدمين وأيام العرب وما يجري مجرى ذلك مما يكون مساعداً للطبع، ومسهلاً طريق التأليف والنظم، بل يتفاوت في العلو والهبوط بحسب التفاوت في ضعف المساعد من ذلك وقوته؛ إذ معرفته هذه الأمور قائمة من الإنشاء مقام المادة، والطبع قائم منه مقام الآلة، فلا يتم الفعل وإن قامت الصورة في نفس الصانع ما لم توجد المادة والآلة جميعاً، ولو كان حصول المادة كافياً في التوصل إلى حسن التأليف الذي هو نظم الألفاظ المتناسبة وتطبيقها على المعاني المساوية لكانت صناعة الكلام المؤلف من الرسائل والخطب والأشعار سهلة، والمشاهد بخلاف ذلك، لقصور الأفاضل عن بلوغ هذه الدرجة.
وأما خلو الفكر عن المشوش فإنه يرجع إلى أمرين: الأمر الأول صفاء الزمان فقد قال أبو تمام الطائي في وصيته لأبي عبادة البحتري مرشداً له للوقت المناسب لذلك: تخير الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر، فإن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم، وخف عنها ثقل الغذاء، وصفا الدماغ من أكثر الأبخرة والأدخنة، وسكنت الغماغم، ورقت النسائم، وتغنت الحمائم.
وخالف ابن أبي الأصبع في اختيار وقت السحر، وجنح إلى اختيار وسط الليل أخذاً من أبي تمام في قصيدته البائية:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ** والليل أسود رقعة الجلباب

مفسراً للدجى بوسط الليل، محتجاً لذلك بأنه حينئذ تكون النفس قد أخذت حظها من الراحة، ونالت قسطها من النوم، وخف عنها ثقل الغذاء، فيكون الذهن حينئذ صحيحاً، والصدر منشرحاً، والبدن نشيطاً، والقلب ساكناً، بخلاف وقت السحر فإنه وإن كان فيه يرق النسيم وينهضم الغذاء، إلا أنه يكون قد انتبه فيه أكثر الحيوانات، الناطق وغيره، ويرتفع معظم الأصوات، ويجري الكثير من الحركات، وينقشع بعض الظلماء بطلائع أوائل الضوء، وربنا انهضم عن بعض الناس الغذاء فتحركت الشهوة لإخلاف ما انهضم منه وخرج من فضلاته، فكان ذلك داعياً إلى شغل الخاطر، وباعثاً على انصراف الهم إلى تدبير الحدث الحاضر، فيتقسم الفكر، ويتذبذب القلب، ويتفرق جميع الهم، بخلاف وسط الليل فإنه خال من جميع ذلك.
الأمر الثاني صفاء المكان وذلك بأن يكون المكان الذي هو فيه خالياً من الأصوات، عارياً عن المخوفات والمهولات والطوارق، وأن يكون مع ذلك مكاناً رائقاً معجباً، رقيق الحواشي، فسيح الأرجاء، بسيط الرحاب، غير غم ولا كدر، فإن انضم إلى ذلك ما فيه بسط للخاطر: من ماء وخضرة وأشجار وأزهار وطيب رائحة، كان أبسط للفكرة وأنجح للخاطر.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه ينبغي خلو المكان من النقوش الغريبة، والمراثي المعجبة، فإنها وإن كانت مما ينشط الخاطر فإن فيها شغلاً فيتبعه القلب فيتشتت.

.المقصد الثاني من الطرف الثالث في بيان طرق البلاغة ووجوه تحسين الكلام وكيفية إنشائه وتأليفه وتهذيبه وتأديته وبيان ما يستحسن من الكلام المصنوع وما يعاب به:

أما إنشاؤه وتأليفه فقد قال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير: يجب على كل من كان له ميل إلى عمل الشعر وإنشاء الثر أن يتعهد أولاً نفسه ويمتحنها بالنظر في المعاني، وتدقيق الفكر في استنباط المخترعات، فإذا وجد لها فطرة سليمة، وجبلة موزونة، وذكاء وقاداً، وخاطراً سمحاً، وفكراً ثاقباً، وفهماً سريعاً، وبصيرة مبصرة، وألمعية مهذبة، وقوة حافظة، وقدرة حاكية، وهمة عالية، ولهجة فصيحة، وفطنة صحيحة، أخذ حينئذ في العمل، وإن كان بعض ذلك غير لازم لرب الإنشاء، ولا يضطر إليه أكثر الشعراء، ولكن إذا كملت هذه الصفات في الكاتب والشاعر، كان موصوفاً في هذه الصناعة بكمال الأوصاف النفيسة.
قال أبو هلال العسكري في الصناعتين: إذا أردت أن تصنع كلاماً فأخطر معانيه ببالك، ونق له كرائم اللفظ فاجعلها على ذكر منك ليقرب عليك تنأولها، ولا يتعبك تطلبها، واعمله ما دمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور، وتخونك الملال، فأمسك، فإن الكثير مع الملال قليل، والنفيس مع الضجر خسيس، والخواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك من الري، وتنال أربك من المنفعة، فإذا أكثرت عليها نضب ماءها، فقل عنك غناؤها. وينبغي أن تخرج مع الكلام معارضه، فإذا مررت بلفظ حسن أخذت برقبته، أو معنى بديع تعلقت بذيله. وتحرز أن يسبقك فإنه إن سبقك تعبت في تطلبه، ولعلك لا تلحقه على طول الطلب، ومواصلة الدأب، وهذا الشاعر يقول:
إذا ضيعت أول كل شيء ** أبت أعجازه إلا التواء

وقد قالوا: ينبغي لصانع الكلام ألا يتقدم الكلام تقدماً، ولا يتتبع ذناباه تتبعاً، ولا يحمله على لسانه حملاً، فإنه إن تقدم الكلام لم يتبعه خفيفه وهزيله وأعجفه والشارد منه، وإن تتبعه فاتته سوابقه ولواحقه، وتباعدت عنه جياده وغرره، وإن حمله على لسانه ثقلت عليه أوساقه وأعباؤه، ودخلت مساويه في محاسنه، ولكنه يجري معه فلا تند عنه نادة تعجبه سمناً إلا كبحها، ولا تتخلف عنه مثقلة هزيلة إلا أرهقها، وطوراً يفرقه ليختار أحسنه، وطوراً يجمعه ليقرب عليه خطوة الفكر، ويتنأوله من تحت لسانه، ولا يسلط الملل على قلبه، ولا الإكثار على فكره، فيأخذه عفوة، ويستغزر دره ولا يكره آبياً، ولا يدفع آتياً. وإياك والتعقيد والتوعر، فإن التوغر هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريماً، فليلتمس له لفظاً كريماً، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن يصونهما عما يدنسهما، ويفسدهما ويهجنهما، فتصير بهما إلى حد تكون فيه أسوأ حالاً منك قبل أن تلتمس البلاغة، وترتهن نفسك في ملابستها؛ وليكن لفظك شريفاً عذباً، فخماً سهلاً، ومعناه ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً؛ فإن وجدت اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى مركزها، ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في موضعها، نافرة عن مكانها، فلا تكرهها على اغتصاب أماكنها، والنزول في غير أوطانها؛ وإن بليت بتكلف القول، وتعاطي الصناعة، ولم تسمح لك الطبيعة في أول وهلة، وعصت عليك بعد إجالة الفكر، فلا تعجل ودعه سحابة يومك، ولا تضجر، وأمهله سواد ليلتك، وعاوده عند نشاطك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرف؛ وينبغي أن تعرف أقدار المعاني فتوازن بينها وبين أوزان المستمعين وأقدار الحالات، فتجعل لكل طبقة كلاماً ولكل حال مقاماً، حتى تقسم أقدار المستعمين على أقدار الحالات، فإن المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال.
قال في مواد البيان: ويكون استعمال كل من جزل الألفاظ وسهلها، وفصيحها وسلسلها وبهجها في مواضعه، وأن يسلك في تأليف الكلام الطريق الذي يخرجه عن حكم الكلام المنثور العاطل الذي تستعمله العامة في المخاطبات والمكاتبات إلى حكم المؤلف الحالي بحلي البلاغة والبديع، كالاستعارات، والتشبيهات، والأسجاع، والمقابلات، وغيرها من أنواع البديع.
قال في الصناعتين: وإن عملت رسالة أو خطبة فتخط ألفاظ المتكلمين كالجسم، والجوهر، والعرض، واللون، والتأليف، واللاهوت، والناسوت، فإن ذلك هجنة.
قال في مواد البيان: وذلك بأن يقصد الكاتب إلى ألفاظ غريبة عن الصناعة غير مجانسة لها. قال: وإنما يؤتى الكاتب في هذا الباب من جهة أن يكون له شركة في صناعة غير الكتابة، كصناعة القه والكلام وغيرهما، مثل صناعة أصحاب الإعراب ونحوها؛ فلكل طبقة من هذه الطبقات ألفاظ خاصة بها، يستعملونها فيما بينهم عند المحاورة والخوض في الصناعة؛ ومن عادة الإنسان إذا تعاطى باباً من هذه الأبواب أن يسبق خاطره إلى الألفاظ المتعلقة به، فيوقعها في الكتب التي ينشئها لغلبة عادة استعماله إياها، فيهجنها بإدخاله فيها ما ليس من أنواعها.
قال في الصناعتين: وتخير الألفاظ وإبدال بعضها من بعض يوجب التئام الكلام، وهو من أحسن نعوته وأزين صفاته، فإن أمكن مع ذلك انتظامه من حروف سهلة المخارج كان أحسن له، وأدعى للقلوب إليه، وإن اتفق له أن يكون موقعه في الإطناب أو الإيجاز أليق بموقعه، وأحق بالمقام والحال، كان جامعاً للحسن، بارعاً في الفضل؛ فإن بلغ مع ذلك أن تكون موارده تنبيك عن مصادره، وأوله يكشف قناع آخره، كان قد جمع نهاية الحسن، وبلغ أعلى مراتب التمام.
قال في مواد البيان: وإذا سلكت طريقاً فمر فيها، ولا تتنازل عنها إن كانت رفيعة، ولا ترتفع عنها إن كانت وضيعة. وخالف ابن أبي الأصبع، فقال: ولا تجعل كل الكلام شريفاً عالياً، ولا وضيعاً نازلاً، بل فصله تفصيل العقود، فإن العقد إذا كان كله نفيساً لا يظهر حسن فرائده، ولا يبين جمال واسطته، فإن الكلام إذا كان متنوعاً في البلاغة، أفتنت الأسماع فيه، ولا يلحق النفوس ملل من ألفاظه ومعانيه، ولا يخرج عن عرض إلى غيره حتى يكمل كل ما ينتظم فيه، كما إذا كان ينشئ كتاباً في العذل والتوبيخ، فيشوب ألفاظه ألفاظ أخرى تخرج عن الخشونة إلى الليل، فإن اختلاف رقعة الكلام من أشد عيوبه.
قال في الصناعتين: ولا تجعل لفظك حواشياً بدوياً، ولا مبتذلاً سوقياً، ورتب الألفاظ ترتيباً صحيحاً، فتقدم منها ما يحسن تقديمه، وتؤخر منها ما يحسن تأخيره؛ ولا تقدم منها ما يكون التأخير به أحسن، ولا تؤخر ما كان التقديم به أليق، ولا تكرر الكلمة الواحدة في كلام قصير، كما كتب سعيد بن حميد: ومثل خادمك بين يديه ما يملك فلم يجد شيئاً يفي بحقك، ورأى أن تقريظك بما يبلغه اللسان وإن كان مقصراً عن حقك أبلغ في أداء ما يجب لك. فكرر ذكر الحق مرتين في مقدار يسير. على أن أبا جعفر النحاس قد ذكر في صناعة الكتاب أن ذلك ليس بعيب عند كثير من أهل العربية، وهو الحق، فقد وقع مثل ذلك من التكرير في القرآن الذي هو أفصح كلام، وآنق نظام، في قوله تعالى: {والسماء رفعها ووضع الميزان * أن لا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} فكرر ذكر الميزان ثلاث مرات في مقدار يسير من الكلام، وأمثاله في القرآن الكريم كثير.
قال في الصناعتين: فإن احتاج إلى إعادة المعاني أعادها بغير اللفظ الذي ابتدأ به كما قال معاوية: من مل يكن من بني عبد المطلب جواداً فهو دخيل، ومن لم يكن من بني الزبير شجاعاً فهو لزيق، ومن لم يكن من بني المغيرة واحد، والكلام على ما ترى حسن؛ ولو قال لزيق ثم أعاد لسمج. على أن الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر قد ذكر ما ينافي ذلك، وتعقب أبا إسحاق الصابي في قوله في تحميدة كتاب: الحمد لله الذي لا تدركه الأعين بألحاظها، ولا تحده الألسن بألفاظها، ولا تخلقه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدهور بكرورها؛ وقوله بعد ذلك في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: لم ير للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه، ولا رسماً إلا أزاله وعفاه؛ فقال لا فرق بين مرور العصور، وكرور الدهور؛ وكذلك لا فرق بين محو الأثر وإعفاء الرسم؛ ويحتمل أن يقال إنما كره صاحب المثل السائر ذلك لتوافق القرينتين في جميع المعنى بخلاف كلام معاوية فإنه متوافق في اللفظة الأخيرة فقط.
قال في الصناعتين: فإن احتاج إلى إعادة المعاني أعادها بغير اللفظ الذي ابتدأ به كما قال معاوية: من لم يكن من بني عبد المطلب جواداً فهو دخيل، ومن لم يكن من بني الزبير شجاعاً فهو لزيق، ومن لم يكن من بني المغيرة تياهاً فهو سنيد. فقال: دخيل، ثم قال: لزيق، ثم قال: سنيد، والمعنى واحد، والكلام على ما ترى حسن؛ ولو قال لزيق ثم أعاد لسمج. على أن الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر قد ذكر ما ينافي ذلك، وتعقب أبا إسحاق الصابي في قوله في تحميدة كتاب: الحمد لله الذي لا تدركه الأعين بألحاظها، ولا تحده الألسن بألفاظها، ولا تخلقه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدهور بكرورها؛ وقوله بعد ذلك في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: لم ير للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه، ولا رسماً إلا أزاله وعفاه؛ فقال لا فرق بين مرور العصور، وكرور الدهور؛ وكذلك لا فرق بين محو الأثر وإعفاء الرسم؛ ويحتمل أن يقال إنما كره صاحب المثل السائر ذلك لتوافق القرينتين في جميع المعنى بخلاف كلام معاوية فإنه متوافق في اللفظ الأخيرة فقط.
قال في الصناعتين: وتجنب كل ما يكسب الكلام تعمية كما كتب سعيد ابن حميد يذكر مظلمة إنسان في كتابه: لفلان- وله بي حرمة- مظلمة، يريد لفلان مظلمة وله بي حرمة، بمعنى أنه راعى حرمته. قال: واعلم أن الذي يلزمك في تأليف الرسائل والخطب هو أن تجعلها مزدوجة فقط ولا يلزمك فيها السجع، فإن جعلتها مسجوعة كان أحسن ما لم يكن في سجعك استكراه وتنافر وتعقيد؛ وكثيراً ما يقع ذلك في السجع، وقلما يسلم إذا طال من استكراه وتنافر.
قال ابن أبي الأصبع: ولا تجعل كلامك كله مبنياً على السجع فتظهر عليه الكلفة، ويتبين فيه أثر المشقة، وتتكلف لأجل السجع ارتكاب المعنى الساقط، واللفظ النازل؛ ربما استدعيت كلمة للقطع رغبة في السجع فجاءت نافرة من أخواتها، قلقة في مكانها. بل اصرف كل النظر إلى تجويد الألفاظ وصحة المعاني، واجهد في تقويم المباني، فإن جاء الكلام مسجوعاً عفواً من غير قصد، وتشابهت مقاطعه من غير كسب كان، وإن عز ذلك فاتركه وإن اختلفت أسجاعه، وتباينت في التقفية مقاطعه، فقد كان المتقدمون لا يحتفلون بالسجع جملة، ولا يقصدونه إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق من غير قصد ولا اكتساب؛ وإنما كانت كلماتهم متوازية، وألفاظهم متساوية، ومعانيهم ناصعة، وعبارتهم رائعة، وفصولهم متقابلة، وجمل كلامهم، متماثلة؛ وتلك طريقة الإمام علي رضي الله عنه ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام، كابن المقفع، ويزيد بن هارون، وإبراهيم بن العباس، والحسن بن سهل، وعمرو بن مسعدة، وأبي عثمان الجاحظ، وغيرهم من الفصحاء البلغاء.
قال في مواد البيان: وأقل ما يكون من الازدواج قرينتان.
قال في الصناعتين: وينبغي أن يجتنب إعادة حروف الصلات والرباطات في موضع واحد إذا كتب، في مثل قول القائل له منه عليه، أو عليه منه، أو به له منه، وحقه له عليه. قال: وسبيله أن يداويه حتى يزيله، بأن يفصل ما بين الحرفين مثل أن يقول: أقمت به شهداء عليه، كقول المتنبي:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة ** سبوح لها منها عليها شواهد

قال ابن أبي الأصبع: وليراع الإيجاز في موضعه، والإطناب في موضعه، بحسب ما يقتضيه المقام، ويتجنب الإسهاب والتطويل غير المفيد.
قال العسكري: وينبغي أن يأتي في تأليفه الكلام بآيات من الكتاب العزيز في الأمور الجليلة للترصيع والتحلية، والاستشهاد للمعاني على ما يقع في موقعه، ويليق بالمكان الذي يوقع فيه، ولكنه لا يستكثر منه حتى يكون هو الغالب على كلامه، تنزيهاً لكلام الله تعالى عن الابتذال، فإنه إنما يستعمله على جهة التبرك والزينة، لا ليجعل حشواً في الكلام؛ وإذا استعير منه شيء أتي به على صورته؛ ولا ينقله عن صيغته، ليسلم من تحريفه، ومخالفة اختيار الله تعالى فيه. قال: وكما لا يجوز الإكثار منه لا يجوز أن يخلي كلامه من شيء منه تحلية له، فإن خلو الكلام من القرآن يطمس محاسنه، وينقص بهجته؛ ولذلك كانوا يسمون الخطبة الخالية من القرآن بتراء.
وينبغي ألا يستعمل في كتابته ما جاء به القرآن العظيم من الحذف ومخاطبة الخاص بالعام، والعام بالخاص، والجماعة بلفظ الواحد، والواحد بلفظ الجماعة، وما يجري هذا المجرى، لأن القرآن قد نزل بلغة العرب، وخوطب به فصحاؤهم بخلاف الرسائل.
قال في الصناعتين: لا يجوز أن يستعمل فيها ما يختص بالشعر من صرف ما لا ينصرف، وحذف ما لا يحذف، وقصر الممدود، ومد المقصور، والإخفاء في موضع الإظهار، وتصغير الاسم في موضع تكبيره، إلا أن يريد تصغير التعظيم كقول القائل: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب. ومما يستحسن من وصية أبي تمام لأبي عبادة البحتري في الشعر مما لا يستغني الناثر عن المعرفة به، والنسج على منواله: لأنه يجب أن يناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام، ويكون كخياط يقدر الثياب على قدر الأجسام، وأن يجعل شهوته لتأليف الكلام هي الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين، ويعتبر كلامه بما سلف من كلام الماضين؛ فما استحسنه العلماء فليقصده، وما استقبحوه فليجتنبه، وينبغي أن يعمل السجعات مفرقة بحسب ما يجود به الخاطر، ثم يرتبها في الآخر ويحترز عند جمعها من سوء الترتيب، ويتوخى حسن النسق عنه التهذيب، ليكون كلامه بعضه آخذاً بأعناق بعض، فإنه أكمل لحسنه، وأمثل لرصفه؛ وأن يجيد المبدأ والمخلص والمقطع، ويميز في فكره محط الرسالة قبل العمل، فإنه أسهل للقصد؛ ويجتهد في تجويد هذه المواضع وتحسينها؛ ويوضح معانيه ما استطاع.
قلت: وقد سبق في أول هذه المقالة في بيان ما يحتاج إليه الكاتب من الأدوات وذكر أنواعها بيان كيفية الاقتباس من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية والاستشهاد بها، وكيفية حل الشعر إلى النثر، وتضمينه في خلال الكلام المنثور وما يجري هذا المجرى، فأغنى عن إعادته هنا.
وأما بيان ما يستحسن من الكلام المصنوع فقد قال في الصناعتين: إن الكلام يحسن بسلاسته وسهولته ونصاعته، وتخير لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولبن معاطفه، واستواء تقاسيمه وتعادل أطرافه وتشبه أعجازه بهواديه، وموافقة أواخره لمباديه، مع قلة ضروراته بل عدمها أصلاً، حتى لا يكون لها في الألفاظ أثر، فتجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه، وجودة مقطعه، وحسن رصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه؛ فإذا كان الكلام قد جمع العذوبة والجزالة والسهولة والرصانة مع السلاسة والنصاعة، واشتمل على الرونق والطلاوة، وسلم من ضعف التأليف، وبعد من سماجة التركيب، صار بالقبول حقيقاً، وبالتحفظ خليقاً؛ فإذا ورد على السمع المصيب استوعبه ولم يمجه، والنفس تقبل اللطيف، وتنبو عن الغليظ، وتقلق عن الجاسي البشع؛ وجميع جوارح البدن وحواسه تسكن إلى ما يوافقه وتنفر عما يضاده ويخالفه؛ والعين تألف الحسن، وتقذى بالقبيح، والأنف يرتاح للطيب ويعاف المنتن؛ والفم يلتذ بالحلو، ويمج المر؛ والسمع يتشوق للصوت الرائع، ونيزوي عن الجهير الهائل؛ واليد تنعم باللين، وتتأذى بالخشن؛ والفهم يأنس من الكلام بالمعروف، ويسكن إلى المألوف، ويصغى إلى الصواب، ويهرب من المحال، وينقبض عن الوخم، ويتأخر عن الجافي الغليظ، ولا يقبل الكلام المضطرب إلا الفهم المضطرب والروية الفاسدة.
قال: وليس الشأن في إيراد المعاني لأن المعاني يعرفها العربي والأعجمي، والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، وصحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف؛ وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصف من نعوته التي تقدمت. ألا ترى أن الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة، لم تعمل لإفهام المعاني فقط، لأن الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الإفهام؛ وإنما يدل حسن الكلام، وإحكام صنعته، ورونق ألفاظه، وجودة مقاطعه، وبديع مباديه، وغريب مبانيه، على فضل قائله ومنشيه. وأيضاً فإن الكلام إذا كان لفظاً حلواً عذباً وسطاً دخل في جملة الجيد، وجرى مع الرائع النادر. وأحسن الكلام ما تلاءم نسجه ولم يسخف، وحسن نظمه ولم يهجن، ولم يستعمل فيه الغليظ من الكلام فيكون خلقاً بغيضاً، ولا السوقي من الألفاظ فيكون مهلهلاً دوناً، ولا خير في المعاني إذا استكرهت قهراً، والألفاظ إذا أجبرت قسراً؛ ولا خير فيما أجيد لفظه إلا مع وضوح المغزى وظهور المقصد. قال: وقد غلب على قوم الجهل فصاروا يستجيدون الكلام إذا لم يقفوا على معناه إلا بكد، ويستفصحونه إذا وجدوا ألفاظه كزة غليظة، وجاسية غريبة، ويستحقرون الكلام إذا رأوه سلساً عذباً، وسهلاً حلواً؛ ولم يعلموا أن السهل أمنع جانباً، وأعز مطلباً، وهو أحسن موقعاً، وأعذب مستمعاً؛ ولهذا قيل أجود الكلام السهل الممتنع. وقد وصف الفضل بن سهل عمرو بن مسعدة فقال: هو أبلغ الناس، ومن بلاغته أن كل أحد يظن أن يكتب مثل كتبه، فإذا رامها تعذرت عليه؛ وأنشد إبراهيم بن العباس لخاله العباس بن الأحنف:
إن قال لم يفعل وإن سيل لم ** يبذل وإن عوتب لم يعتب

صب بعصياني ولو قال لي ** لا تشرب البارد لم أشرب

ثم قال: هذا والله الشعر الحسن المعنى، السهل اللفظ، العذب المستمع، القليل النظر، العزيز الشبيه، المطمع الممتنع، البعيد مع قربه، الصعب مع سهولته، قال فجعلنا نقول: هذا الكلام والله أحسن من شعره. وقيل لبعضهم: ألا تستعمل الغريب في شعرك؟ فقال: ذلك عي في زماني، وتكلف مني لو قلته، وقد رزقت طبعاً واتساعاً في الكلام، فأنا أقول ما يعرف الصغير والكبير، ولا يحتاج إلى تفسير.
وقال أبو داود: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخير الألفاظ، والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه، وما كان من الكلام لفظه سهلاً ومعناه مكشوفاً بيناً فهو من جملة الرديء المردود، لا سيما إذا ارتكبت فيه الضورات؛ فأما الجزل المختار من الكلام، فهو الذي تعرفه العامة إذا سمعته، ولا تستعمله في محاوراتها؛ وأجود الكلام ما كان سهلاً جزلاً، لا ينغلق معناه، ولا يستبهم مغزاه، ولا يكون مكدوداً مستكرهاً، ومتوعراً متقعراً؛ ويكون بريئاً من الغثالة، عارياً من الرثائة. فمن الجزل الجيد من النثر قول سعيد بن حميد: وأنا من لا يحاجك عن نفسه، ولا يغالطك عن جرمه، ولا يلتمس رضاك إلا من جهته، ولا يستدعي برك إلا من طريقته، ولا يستعطفك إلا بالإقرار بالذنب، ولا يستمليك إلا بالاعتراف بالجرم؛ نبت بي عنك غرة الحداثة وردتني إليك الحنكة، وباعدتني منك الثقة بالأيام، وقادتني إليك الضرورة، فإن رأيت أن تستقبل الصنيعة بقبول العذر، وتجدد النعمة باطِّراح الحقد، فإن قديم الحرمة وحديث التوبة يمحقان ما بينهما من الإساءة؛ وإن أيام القدرة وإن طالت قصيرة، والمتعة بها وإن كثرت قليلة، فعلت إن شاء الله تعالى.
وأجزل منه قول الشعبي للحجاج وقد أراد قتله لخروجه عليه مع ابن الأشعث: أجدب بنا الجناب، وأحزن بنا المنزل فاستحلسنا الحذر، واكتحلنا السهر، وأصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. فعفا عنه.
ومن النظم قول المرار:
لا تسألي القوم عن مالي وكثرته ** قد يقتر المرء يوماً وهو محمود

أمضي على سنة من والدي سلفت ** وفي أرومته ما ينبت العود

فهذا وإن لم يكن من كلام العامة فإنهم يعرفون الغرض منه ويقفون على أكثر معانيه لحسن ترتيبه وجودة نسجه.
قال في الصناعتين: أما إذا كان لفظ الكلام غثاً، ومعرضه رثاً، فإنه يكون مردوداً، ولو احتوى على أجل معنى وأنبله، وأرفعه وأفضله، كقول القائل:
أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا ** ولا أراهم رضوا في العيش بالدون

فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما اس ** تغنى الملوك بدنياهم عن الدين

قال: فهو لا يدخل في جملة المختار، ومعناه كما ترى جميل، فاضل جليل، وأما الجزل الرديء الفج الذي ينبغي ترك استعماله فقد مر في الكلام على الغريب الحوشي.

.المقصد الثالث في بيان مقادير الكلام ومقتضيات إطالته وقصره:

اعلم أن الكلام المصنوع من الخطب والمكاتبات، والولايات وغيرها على ثلاث ضروب:
الضرب الأول الإيجاز وهو جميع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، وعليه ورد أكثر آي القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى: في مفتتح سور الفاتحة: {الحمد لله رب العالمين}. انتظم فيه خلق السموات والأرض وسائر المخلوقات لم يشذ عنه شيء، في أوجز لفظ وأقربه وأسهله؛ ومنه قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} استوعب جميع الأشياء على الاستقصاء في كلمتين لم يخرج عنهما شيء؛ وقوله {أولئك لهم الأمن} فدخل تحت الأمن جميع المحبوبات لأنه نفى به أن يخافوا شيئاً من الفقر والموت وزوال النعمة والجور وغير ذلك؛ وقوله: {ليشهدوا منافع لهم} جمع منافع الدنيا والآخرة؛ وقوله في صفة خمر أهل الجنة: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} انتظم بقوله: {ولا هم عنها ينزفون} عدم ذهاب العقل وذهاب المال ونفاد الشراب، فلم يكن فيها شي من ذلك؛ وقوله: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} فجمع فيها مكارم الأخلاق بأسرها، لأن في العفو صلة القاطعين، وإعطاء المانعين؛ وفي الأمر بالمعروف تقوى الله تعالى، وصلة الرحم، وصون اللسان عن الكذب، وغض الطرف عن المحرمات، والتبري من كل قبيح، إذ لا يأمر بالمعروف من هو ملابس شيئاً من المنكر؛ إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.
ومن كلام النبوة قوله صلى الله عليه وسلم: «نية المرء خير من عمله» وقوله عليه السلام: «حبك الشيء يعمي ويصم» إلى غير ذلك من جوامع الكلم.
الضرب الثاني الإطناب وهو الإشباع في القول، وترديد الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد. وقد وقع منه الكثير في الكتاب العزيز، مثل قوله تعالى: {كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون} وقوله جل وعز: {فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً} كرر اللفظ في الموضعين تأكيداً للأمر وإعلاماً أنه كذلك لا محالة. وقوله: {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إني لكم منه نذير مبين} فكرر {إني لكم منه نذير مبين} من حيث إن الكفر وإن تعددت أقسامه لا يخرج عن تعطيل أو شرك، ففي قوله: {ففروا إلى الله} نفي التعطيل بإثبات الإله، وفي قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} حيث عدد فيها نعمه، وأذكر عباده آلاءه، ونبههم على قدرها، وقدرته عليها، ولطفه فيها، وجعلها فاصلة بني كل نعمة ونعمة، تنبيهاً على موضع ما أسداه إليهم فيها، وكذلك كرر في سورة المرسلات: {ويل يومئذ للمكذبين} تأكيداً لأمر القيامة المذكورة فيها. وقد وقع التكرار للتأكيد في كلام العرب كثيراً كما في قول الشاعر:
أتاك أتاك اللاحقون أتاكا

وقول الآخر:
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم

إلى غير ذلك مما وقع في كلامهم مما لا تأخذه الإحاطة.
الضرب الثالث المساواة بأن تكون الألفاظ بإزاء المعاني في القلة والكثرة لا يزيد بعضها على بعض. وقد مثل له العسكري في الصناعتين بقوله تعالى: {حور مقصورات في الخيام} وقوله: {ودوا لو تدهن فيدهنون} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً» وقوله: «إياك والمشاورة، فإنها تميت الغرة وتحيي العرة» وقول بعض الكتاب: سألت عن خبري وأنا في عافية لا عيب فيها إلا فقدك، ونعمة لا مزيد فيها إلا بك. وقول الآخر: وقد علمتني نبوتك سلوتك، وأسلمني يأسي منك إلى الصبر عنك. وقول آخر: فتولى الله النعمة عليك وفيك، وتولى إصلاحك والإصلاح بك، وأجزل من الخير حظك والحظ منك، ومن عليك وعلينا بك، وقول الشاعر:
أهابك إجلالاً وما بك قدرة ** علي ولكن ملء عين حبيبها

وما هجرتك النفس أنك عندها ** قليل ولا أن قل منك نصيبها

إذا علمت ذلك فقد اختلف البلغاء في أي الثلاثة أبلغ وأولى بالكلام، فذهب قوم إلى ترجيح الإيجاز، محتجين له بأنه صورة البلاغة وأن ما تجاوز مقدار الحاجة من الكلام فضلة داخلة في حيز اللغو والهذر، وهما من أعظم أدواء الكلام، وفيهما دلالة على بلادة صاحب الصناعة وغباوته، وقد قال الأمين محمد بن الرشيد: عليكم بالإيجاز فإن له إفهاماً، وللإطالة استبهاماً. وقال جعفر ابن يحيى لكتابه: إن قدرتم على أن تجعلوا كتبكم توقيعات فافعلوا. وقال بعضهم: البلاغة بالإيجاز أنجع من البيان بالإطناب، وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز. قيل لابن حازم لم لا تطيل القصائد؟ فأنشد:
أبى لي أن أطيل الشعر قصدي ** إلى المعنى وعلمي بالصواب

وإيجازي بمختصر قريب ** حذفت به الفضول من الجواب

وذهبت طائفة إلى أن الإطناب أرجح، واحتجوا لذلك بأن المنطق إنما هو بيان، والبيان لا يحصل إلا بإيضاح العبارة، وإيضاح العبارة لا يتهيأ إلا بمرادفة الألفاظ على المعنى حتى تحيط به إحاطة يؤمن معها من اللبس الإبهام، وإن الكلام الوجيز لا يؤمن وقوع الإشكال فيه، ومن ثم لم يحصل على معانيه إلا خواص أهل اللغة العارفين بدلالات الألفاظ، بخلاف الكلام المشبع الشافي فإنه سالم من الالتباس لتساوي الخاص والعام في جهته، ويؤيد ذلك ما حكي أنه قيل لقيس بن خارجة: ما عندك في جمالات ذات حسن؟ قال: عندي قرى كل نازل، ورضا كل ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل، وأنهى عن التقاطع؛ فقيل لأبي يعقوب الجرمي هلا اكتفى بقوله آمر فيها بالتواصل عن قوله: وأنهى عن التقاطع؟ فقال: أو ما علمت أن الكتابة والتعريض لا تعمل عمل الإطناب والتكشف؟ ألا ترى أن الله تعالى إذا خاطب العرب والأحزاب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطاً؟ وقلما تجد قصة لبني إسرائيل في القرآن إلا مطولة مشروحة، ومكررة في مواضع معادة لبعد فهمهم، وتأخر معرفتهم، بخلاف الكلام المشبع الشافي فإنه سالم من الالتباس لتساوي الخاص والعام في فهمه.
وذهبت فرقةإلى ترجيح مساواة اللفظ المعنى، واحتجوا لذلك بأن منزع الفضيلة من الوسط دون الأطراف، وأن الحسن إنما يوجد في الشيء المعتدل.
قال في مواد البيان: والذي يوجبه النظر الصحيح أن الإيجاز والإطناب والمساواة صفات موجودة في الكلام ولكل منها موضع لا يخلفه فيه رديفه، إذا وضع فيه انتظم في سلك البلاغة ودل على فضل الواضع، وإذا وضع غيره دل على نقص الواضع وجهله برسوم الصناعة.
فأما الكلام الموجز فأنه يصلح لمخاطبة الملوك، وذوي الأخطار العالية، والهمم المستقيمة، والشؤون السنية، ومن لا يجوز أن يشغل زمانه بما همته مصروفة إلى مطالعة غيره.
وأما الإطناب فإنه يصلح للمكاتبات الصادرة في الفتوحات ونحوها مما يقرأ في المحافل، والعهود السلطانية، ومخاطبة من لا يصل المعنى إلى فهمه بأدنى الأزارقة من الخوارج والظهور عليهم على ارتفاع خطر هذا الفتح وطول زمانه وبعد صيته، فإنه كتب فيه: الحمد لله الذي كفى بالإسلام قصد ما سواه، وجعل الحمد متصلاً بنعماه، وقضى ألا ينقطع المزيد وحيله، حتى ينقطع الشكر من خلفه؛ ثم إنا كنا وعدونا على حالتين مختلفتين نرى منهم ما يسرنا أكثر مما يسرهم، ويرون منا ما يسوءهم أكثر مما يسرهم، فلم يزل ذلك دأبنا ودأبهم، ينصرنا الله ويخذلهم، وبمحصناً ويمحقهم، حتى بلغ الكتاب بناديهم أجله {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}.
فإن الذي حمله على الاختصار في هذا الكتاب إنما هو كونه إلى السلطان الذي من شانه اختصار المكاتبات التي تكتب إليه، بخلاف ما لو كتب به عن السلطان إلى غيره، فإنه يتعين فيه بسط القول وإطالته على ما سيأتي ذكره في أول المكاتبات في المقالة الرابعة إن شاء الله تعالى.
وأما مساواة اللفظ للمعنى فإنه يصلح لمخاطبة الأكفاء والنظراء والطبقة الوسطى من الرؤساء. فكما أن هذه المرتبة متوسطة بين طرفي الإيجاز والإطناب، كذلك يجب أن تخص بها الطبقة الوسطى من الناس. قال: أما لو استعمل كاتب تريد الألفاظ ومرادفتها على المعنى في المكاتبة إلى ملك مصروف الهمة إلى أمور كثيرة متى انصرف منها إلى غيرها دخلها الخلل، لرتب كلامه في غير رتبه، ودل على جهله بالصناعة. وكذا لو بنى على الإيجاز كتاباً يكتبه في فتح جليل الخطر، حسن الأثر، يقرأ في المحافل والمساجد الجامعة على رؤوس الأشهاد من العامة ومن يراد منه تفخيم شأن السلطان في نفسه، لأوقع كلامه في غير موقعه، ونزله في غير منزلته، لأنه لا أقبح ولا أسمج من أن يستنفر الناس لسماع كتاب قد ورد من السلطان في بعض عظائم أمور المملكة أو الدين، فإذا حضر الناس كان الذي يمر على أسماعهم من الألفاظ وارداً مورد الإيجاز والاختصار لم يحسن موقعه وخرج من وضع البلاغة لوضعه في غير موضعه.
قلت: وما ذكرته من الأصول والقواعد التي تبنى عليها صنعة الكلام هو القدر اللازم الذي لا يسع الكاتب الجهل بشيء منه، ولا يسمح بإخلاء كتاب مصنف في هذا الفن منه.
أما المتممات التي يكمل بها الكاتب، من المعرفة بعلوم البلاغة ووجوه تحسين الكلام من المعاني والبيان والبديع، فإن فيها كتباً مفردة تكاد تخرج عن الحصر والإحصاء، فاقتضي الحال من المتقدمين للتصنيف في هذا الفن أن قد قصروا تصانيفهم على علوم البلاغة وتوابعها كالوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر وأبي هلال العسكري في الصناعتين والشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في حسن التوسل كما تقدمت الإشارة إليه في مقدمة الكتاب، فليطلب ذلك من مظانه من هذه الكتب وغيرها، إذ هذا الكتاب إنما يذكر فيه ما يشق طلبه من كتب متفرقة، وتصانيف متعددة، أو يكون في المصنف الواحد منه النبذة غير الكافية، ولا يجتمع منه المطلوب إلا من كشف الكثير من المصنفات المتفرقة في الفنون المختلفة.